فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به} أي فلما تركوا ما وعظوا به {أنجينا الذين ينهون عن السوء} وهم الفرقة الناهية {وأخذنا الذين ظلموا} يعني الفرقة المعتدية العاصية {بعذاب بئيس} أي شديد وجميع من البأس وهو الشدة {بما كانوا يفسقون} يعني أخذناهم بالعذاب بسبب فسقهم واعتدائهم وخروجهم عن طاعتنا.
روى عكرمة عن ابن عباس قال: أسمع الله يقول أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس فلا أدر ما فعلت الفرقة الساكتة وجعل يبكي قال عكرمة: فقلت جعلني الله فداك، ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه، وقالوا لم تعظون قومًا الله مهلكهم، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم قال فأعجبه قولي ورضي به وأمر لي ببردين فكسانيهما وقال: نجت الساكتة وقال يمان بن رباب: نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون والذين قالوا معذرة وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان وهذا قول الحسن، وقال ابن زيد: نجت الناهية وهلكت الفرقتان وهذه الآية أشد آية في ترك النهي عن المنكر. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤُهم تركَ الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضًا كليًا بحيث لم يخطُر ببالهم شيءٌ من تلك المواعظ أصلًا {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء} وهم الفريقان المذكورانِ، وإخراجُ إنجائِهم مُخرجَ الجوابِ الذي حقُّه الترتبُ على الشرط وهو نِسيانُ المعتدين المستتبِعُ لإهلاكهم لما أن ما في حيز الشرط شيآنِ: النسيانُ والتذكيرُ كأنه قيل: فلما تَذَكّرَ المذكورون ولم يتذكر المعتدون أنجينا الأولين وأخذنا الآخَرين، وأما تصديرُ الجواب بإنجائهم فلما مر مرارًا من المسارعة إلى بيان نجاتِهم من أول الأمرِ مع ما في المؤخر من نوع طُول {وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} بالاعتداء ومخالفةِ الأمر {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي شديدٍ وزنًا ومعنى، من بَؤُس يبؤُس بأسًا إذا اشتد، وقرئ {بَيْئس} على وزن فيعل بفتح العين وكسرِها، و{بَئِسٍ} على تخفيف العين ونقلِ حركتِها إلى الفاء ككَبِد في كبد و{بِيسٍ} بقلب الهمزة ياءً كذيب في ذئب و{بيّس} كريّس بقلب همزةِ بئيس ياءً وإدغام الياء فيها و{بَيْسٍ} على تخفيف بيّس كهَيْن في هيّن، وتنكيرُ العذاب للتفخيم والتهويل {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} متعلقٌ بأخذنا كالباء الأولى ولا ضيرَ فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب تماديهم في الفسق الذي هو الخروجُ عن الطاعة وهو الظلمُ والعدوانُ أيضًا، وإجراءُ الحكم على الموصول وإن أشعرَ بعلّية ما في حيز الصلة له لكنه صرّح بالتعليل المذكورِ إيذانًا بأن العلةَ هو الاستمرارُ على الظلم والعدوان مع اعتبار كونِ ذلك خروجًا عن طاعة الله عز وجل لا نفسُ الظلم والعدوان، وإلا لما أخّروا عن ابتداء المباشرة ساعة، ولعله تعالى قد عذبهم بعذاب شديد دون الاستئصالِ فلم يُقلعوا عما كانوا عليه بل ازدادوا في الغي فمسخهم بعد ذلك لقوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين}. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضًا كليًا، فما موصولة وجوز أن تكون مصدرية، وهو خلاف الظاهر.
والنسيان مجاز عن الترك، واستظهر أنه استعارة حيث شبه الترك بالنسيان بجامع عدم المبالاة، وجوز أن يكون مجازًا مرسلًا لعلاقة السببية، ولم يحمل على ظاهره كما قال بعضهم المحققين لأنه غير واقع ولأنه لا يؤاخذ بالنسيان ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب عليه انجاء الناهين في قوله سبحانه وتعالى:
{أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء} إذ لم يمتثلوا أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزمهم تذكيرهم وظاهر الآية ترتب الانجاء على النسيان وهو في الحقيقة مرتب على النسيان والتذكير، وما في حيز الشرط مشير إليهما فكأنه قيل: فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون وأعرضوا عما ذكروا به أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين، وعنوان النهي عن السوء شامل للذين قالوا: {لم تعظون} [الأعراف: 164] إلخ وللمقول لهم ذلك، أما شموله للمقول لهم فواضح وأما شموله للقائلين فلأنهم نهوا أيضًا إلا أنهم رأوا عدم النفع فكفوا وذلك لا يضرهم فقد نصوا على أنه إذا علم الناهي حال المنهى وأن النهي لا يؤثر فيه سقط عنه النهي وربما وجب الترك على ما قال الزمخشري لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على الطريق لأخذ أموال الفقراء وغيرهم بغير حق لتعظهم وتكفهم عما هم عليه كان ذلك عبثًا منك ولم يكن إلا سببًا للتلهي بك، ولم يعرض أولئك كما أعرض هؤلاء لعدم بلوغهم في اليأس كما بلغ إخوانهم أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم} [الكهف: 6].
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وعنى بهم القائلين ومنشأ قوله هذا كما نطقت به بعض الروايات أنه سمع قوله سبحانه: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء} وقوله جل وعلا: {وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} أي بالاعتداء ومخالفة الأمر ولم يغص رضي الله تعالى عنه مع أنه الغواص فقال له عكرمة: جعلني الله فداك ألا تراهم كيف أنكروا وكرهوا ما القوم عليه وقالوا ما قالوا وإن لم يقل الله سبحانه أنجيتهم لم يقل أهلكتهم فأعجبه قوله وأمر له ببردين وقال: نجت الساكتة، ونسب الطبرسي إليه رضي الله تعالى عنه قولين آخرين في الساكتة أحدهما القول بالتوقف وثانيهما القول بالهلاك وبه قال ابن زيد، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه فالمأخوذ حينئذ الساكتون والظالمون {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي شديد وفسره الحبر بما لا رحمة فيه ويرجع إلى ما ذكر، وهو فعيل إما وصف أو مصدر كالنكير وصف به مبالغة، والأكثرون على كونه وصفًا من بؤس يبؤس بأسًا إذا اشتد.
وقال الراغب: البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقرة والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية، وقرأ أبو بكر {بيئس} على فيعل كضيغم وهو من الأوزان التي تكون في الصفات والأسماء، والياء إذا زيدت في المصدر هكذا تصيره اسما أو صفة كصقل وصيقل وعينه مفتوحة في الصحيح مكسورة في المعتل كسيد، ومن هنا قيل في قراءة عاصم في رواية عنه {بيئس} بكسر الهمزة إنها ضعيفة رواية ودراية ويخففها أن المهموز أخو المعتل، وقرأ ابن عامر {بالالقاب بِئْسَ} بكسر الباء وسكون الهمزة على أن أصله بئس بباء مفتوحة وهمزة مكسورة كحذر فسكن للتخفيف كما قالوا في كبد كبد وفي كلمة كلمة، وقرأ نافع {بيس} على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذيب لسكونها وانكسار ما قبلها، وقيل: إن هاتين القراءتين مخرجتان على أن أصل الكلمة بئس التي هي فعل دم جعلت اسمًا كما في قيل وقال، والمعنى بعذاب مذموم مكروه، وقرئ {بيس} كريس وكيس على قلب الهمزة ياء ثم ادغامها في الياء، وقيل: على أنه من البؤس بالواو وأصله بيوس كميوت فأعل اعلاله و{بيس} على التخفيف كهين و{بائس} بزنة اسم الفاعل أي ذو بأس وشدة، وقرئ غير ذلك، وأوصل بعضهم ما فيه من القراءات إلى ست وعشرين، وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل {السماء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب فسقهم المستمر، ولا مانع من أن يكون ذلك سببًا للأخذ كما كان سببًا للابتداء وكذا لا مانع من تعليله بما ذكر بعد تعليله بالظلم الذي في حيز الصلة لأن ذلك ظلم أيضًا، ولم يكتف بالأولى لما لا يخفى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ}.
وضمير {نسوا} عائد إلى {قومًا} والنسيان مستعمل في الإعراض المفضي إلى النسيان كما تقدم عند قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذُكروا به} في سورة الأنعام (44).
و{الذين ينهون عن السوء} هم الفريقان المذكوران في قوله آنفًا {وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قومًا} إلى قوله: {ولعلهم يتقون}، و{الذين ظلموا} هم القوم المذكورون في قوله: {قومًا الله مُهلكهم} إلخ.
والظلم هنا بمعنى العصيان، وهو ظلم النفس، حق الله تعالى في عدم الامتثال لأمره.
و{بِيسٍ} قرأه نافع وأبو جعفر بكسر الباء الموحدة مشبعة بياء تحتية ساكنة وبتنوين السين على أن أصله بئْس بسكون الهمزة فخففت الهمزة ياء مثل قولهم: ذِيب في ذِئْب.
وقرأه ابن عامر {بئْس} بالهمزة الساكنة وإبقاء التنوين على أن أصله بَئيس.
وقرأه الجمهور {بَئيس} بفتح الموحدة وهمزة مكسورة بعدها تحتية ساكنة وتنوين السين على أنه مثالُ مبالغة من فعل بَؤُس بفتح الموحدة وضم الهمزة إذا أصابه البؤس، وهو الشدة من الضر.
أو على أنه مصدر مثل عَذير ونَكير.
وقرأه أبو بكر عن عاصم {بَيْئسَ} بوزنَ صَيْقل، على أنه اسم للموصوف بفعل البؤس مبالغة، والمعنى، على جميع القراءات: أنه عذاب شديد الضر.
وقوله: {بما كانوا يفسقون} تقدم القول في نظيره قريبًا.
وقد أجمل هذا العذاب هنا، فقيل هو عذاب غير المسخ المذكور بعده، وهو عذاب أصيب به الذين نَسوا ما ذُكروا به، فيكون المسخ عذابًا ثانيًا أصيب به فريق شاهدوا العذاب الذي حل بإخوانهم، وهو عذاب أشد، وقع بعد العذاب البيس، أي أن الله أعذر إليهم فابتدأهم بعذاب الشدة، فلما لم ينتهوا وعتوا، سلّط عليهم عذاب المسخ.
وقيل: العذاب البِئس هو المسخ، فيكون قوله: {فلما عتوا عما نهوا عنه} بيانًا جمال العذاب البئس، ويكون قوله: {فلما عتوا} بمنزلة التأكيد لقوله: {فلما نسوا} صيغ بهذا الأسلوب لتهويل النسيان والعتو، ويكون المعنى: أن النسيان، وهو الإعراض، وقع مقارنًا للعتو.
و{ما ذكّروا به} و{ما نُهوا عنه} ما صْدَقُهما شيء واحد، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: فلما نسوا وَعتوا عما نهوا عنه وذُكروا به قلنا لهم الخ، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى هذا الأسلوب من الإطناب لتهويل أمر العذاب، وتكثير أشكاله، ومقام التهويل من مقتضيات الأطناب، وهذا كإعادة التشبيه في قول لبيد:
فتنازعا سبطًا يطير ظلاله ** كدخان مُشعَلة يشبّ ضرامها

مشمولةٍ غُلِثت بنابت عَرفج ** كدُخان نار ساطع أسنامها

ولكن أسلوب الآية أبلغ وأوفر فائدة، وأبعد عن التكرير اللفظي، فما في بيت لبيد كلامٌ بليغ، وما في الآية كلام معجز. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)}.
ويخبرنا الحق هنا أن الموعوظين حينما نسوا ما وعظهم به بعض المؤمنين أهلكهم الله بالعذاب الشديد جزاءً لخروجهم وفسوقهم عن المنهج وأنجى الله الفرقة الواعظة. وماذا عن الفرقة الثالثة التي لم تنضم إلى الواعظين أو الموعوظين؟ الذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ} إن قولهم هذا لون من الوعظ؛ فساعة يخوفونهم بأن ربنا مهلك أو معذب من يخرج على منهجه، فهو وعظ من طرف آخر.
وقوله الحق: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} يدل على أنه قد وعظهم غيرهم وذكروهم. ويعذب الحق هؤلاء الذين ضربوا عرض الحائط بمنهجه ولم يسمعوا مَن وعظوهم، وخرجوا على تعاليمه فظلموا أنفسهم واستحقوا العذاب الشديد؛ فالمسألة ليست تعنتًا من الله؛ لأنهم السبب في هذا، إما بفسق، وإمّا بظلم للنفس. اهـ.